الرؤيا
من أكثر الروايات شيوعا وإنتشارا عن سيدي أحمد بن الشيخ تلك الرؤيا التي رآها في سفر وتجسدت في الواقع كفلق الصبح . إنها رواية بلغت حد التواتر . ها أنذا أقدمها لك أخي القارئ بأمانة كأنك تعيشها رأي العين . أرويها لك عن أصدق الرواة وأضبطهم لأحداث سيدي أحمد بن الشيخ . إنه إبنه ووارث سره سيدي الحاج الشيخ، حيث يقول : كان سيدي أحمد بن الشيخ لا زال طفلا حينما أرسله أخوه الأكبر سيدي محمد بن الشيخ مع قافلة إلى كرارة بالصحراء التي كانت تأمها القوافل شتاء لكيل التمور . وكانت القافلة تتكون من 12 رجلا إضافة إلى الطفل سيدي أحمد بن الشيخ المكلف برعاية الإبل .
وكان أمير القافلة سيدي حكوم هو إبن عم شقيق لسيدي أحمد بن الشيخ . وبعدما قضوا مآربهم وقفلوا راجعين خيموا ذات ليلة بموضع بالظهرة يسمى بولرجام بقرب أحد الدواوير . وكانت العادة إذا خيم وفد بقرب دوار يستضيفه أهل الدوار، إلا أن أهل هذا الدوار على غير عادة لم يحركوا ساكنا الشيء الذي أثار حفيظة الوفد وجعله يقرر الرحيل عن بكرة أبيه . وبينما هم نيام إذ رأى سيدي أحمد بن الشيخ رؤيا عجيبة كانت نقطة إنطلاق لمسيرة شيخ جليل دون إسمه في سجل أولياء الله الصالحين . ولم يكن سيدي أحمد آنذاك بحكم سنه ليبدي رأيا أو يساهم في إتخاذ قرار . ومن ناحية أخرى كان الأمل يراوده أن يشاهد تحقق رؤياه في الواقع . وهذا ما جعله يهمس إلى أحد أعمامه الذي كان يأنس به قائلا : " تمنيت لو أن عمي سيدي حكوم وافق على أن نقيم هنا هذا اليوم " . وكانت العبارة حافزا للرجل أن يستفسره في الأمر قائلا :
" لماذا أراك ترغب في المقام هذا اليوم ولم يكن من دأبك أن تطرح مثل هذا الإقتراح الذي أتى في غير أوانه " . فأجاب سيدي أحمد مضيفا بلهجة مزيج بالشوق التخوف " بل أرجو كذلك أن يعفيني هذا اليوم من رعاية الإبل" . فتيقن الرجل أن وراء الطفل شيء جدير بالإعتناء . فأعاد له الإستفسار من جديد بنوع من الإلحاح . وهنا وجد سيدي أحمد بن الشيخ الجو مواتيا ليقص على عمه النبأ بتفصيل قائلا : " يا عم إني رأيت البارحة فيما يرى النائم رؤيا أتمنى أن تتحقق هذا اليوم إن شاء الله" فسأله ماذا رأى . فأجابه مسترسلا بصوت خافت حتى لايسمع :
"إني رأيت فيما يرى النائم أننا نحن جميعا في هذا المكان بالذات والساعة حوالي الضحى، فإذا برجل فارس أعنيه الشيخ عبد القادر الجيلاني قد طلع علينا من تلك الربوة التي أمامنا جنوب شرق الدوار . ورأيت أن صاحبة تلك الخيمة المنفردة غرب الدوار وهي إمرأة أيم، ما إن رأت الشيخ حتى خرجت من خيمتها تجري في إستقباله في فرحة عارمة تنادي بأعلى صوتها مكررة وافرحتاه سيدي قد زارني . في تلك اللحظة بالذات إنطلقت أنا من بينكم أعدو نحوه بدون شعور . فأسرع إلى إمساكي عمي فلان وعمي فلان رغما عني . ولم أتمالك أن سقطت في شبه غيبوبة . ولما سلمت عليه المرأة قفلت راجعة بسرعة وسوت تفريش الجهة اليمنى من الخيمة وأزاحت عنها الستار . فقال لها الشيخ : "هلمي إلي بأولئك الرجال" . فلما كلمتنا لبينا النداء . فلما أتيناه سلم علينا الواحد بعد الآخر ثم دخل الخيمة برفقة سيدي حكوم ثم دخلنا نحن وراءهما . وأجلس كل واحد منا في موضع . وكنا على النحو التالي : فلان في الموضع الفلاني وفلان في الفلاني وهكذا حتى نهاية الصف حيث كنت أنا جالسا . ثم نادى الشيخ الجيلاني المرأة قائلا :
"اذهبي إلى السرج واتني منه بالجراب" . فلما ناولته إياه أخرج منه بطيخة صفراء ( ولم يكن فصل البطيخ لأن الفصل كان شتاء ) . وقال للمرأة اتيني بالقصعة والسكين . فلما ناولته إياهما قام بتشطير البطيخة بنفسه ثم بدأ يوزع علينا السنانيف إبتداء من اليمين بحيث أعطى كل واحد منكم سنيفا بما فيكم المرأة وبقي في القصعة سنيفان . فناداني مباشرة بإسمي . وقال لي إقترب . وأمر سيدي حكوم الذي كان عن يمينه أن يتنحى شيئا ثم أجلسني بينهما . ولما جلست وضع القصعة أمامي وأعطاني السنيفين معا . فلما رأى سيدي حكوم ذلك منه سأله قائلا :
"لماذا يا سيدي أعطيت الطفل لوحده سنيفين إثنين في الوقت الذي لم تعطينا نحن إلا سنيفا واحدا، ونحن أعمامه وذوو السبق والفضل عليه" . فأجاب الشيخ عبد القادر قائلا : "أنا لم أعط أحدا منكم شيئا إنما أنا قد حملت الأمانة إلى أصحابها فمن أعطاه الله شيئا فقد أبلغته إياه . أما أنا فليس لي من الأمر شيء" . وهكذا أنهى حكاية رؤياه على عمه ولما سمع الرجل خبر رؤيا إبن أخيه وأحس أن لها وزنا ذهب إلى أمير القافلة وقص عليه القصة واستعطفه أن يتمهل مؤكدا له أن وراء الطفل شيء مثير للإنتباه ينبغي الإصغاء إليه مادامت صبيحة واحدة ليست بذات تأثير يذكر على المسير خصوصا وأنهم كانوا على مشارف الوصول . وإستجاب الأمير للطلب، وإنتشر الخبر بين الجماعة، وبدأت الأعناق تشرئب نحو المكان المقصود مع إقتراب الميعاد سواء ماكان منها من قبيل التطفل أو من كان يترقب بجد وإهتمام .
ولما حان الوقت برز الفارس من أعلى الربوة بالذات وخرجت المرأة فعلا في نفس الوصف ونادت بنفس النداء الذي حكاه . ثم إنطلق سيدي أحمد بدون شعور، وأمسك به نفس الشخصين فعلا . وإستمرت الواقعة على نفس الوتيرة حرفا بحرف دون نقصان أو زيادة الحرف الواحد مرورا بالفراش ثم المناداة عليهم ثم جلوسهم على نفس الشكل ثم تقسيم البطيخة بنفس الكيفية وإعطاؤه السنيفين من دون الجميع وكذا سؤال سيدي حكوم والجواب الذي تلقاه من الشيخ الجيلاني . وقد تجسدت هذه الرؤيا الصادقة كفلق الصبح للأن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في معنى الحديث الشريف . وكانت أهم معلمة لانطلاق مسيرة شيخ جليل من شيوخ الإسلام الذين اجتباهم المولى سبحانه واصطفاهم بالتكريم . وليس في ذلك من عجب بالنظر إلى طلاقة قدرة الله وطلاقة مشيئته . وكان قد أشار إلى هذه الحقيقة العميقة من ذي قبل جده الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد في مطلع يا قوتته بقوله :
ومهما إجتبى عبدا سعيدا لقربه
تخيره وذاك ليس لعلة
ويمنع من يشاء جل بعدله
ويحرم فيض الفضل من غير قلة
لقد إختارته العناية الربانية بالذات من دون أعمامه بل ومن دون سائر جيله بل وأجيال عديدة من قبيلته، على الرغم من حداثته وطعن الكثير منهم في السن وبلوغهم مراتب رفيعة من التقدير والوقار . لقد تم الإختيار إنطلاقا من عالم الغيب الذي لا دخل فيه ولا إجتهاد للأشخاص ثم بان في شكل رؤيا صادقة لاحت فصولها في الواقع لتنبيه الناس إلى وجود عناية خاصة ترافق هذا الفتى . ثم تواصل ظهوره عبر فصول حياته حتى بلغ مكانة سامقة في سلم الصلاح والإصلاح . ومما زاد في الحادثة بل وفي قيمتها ما كان من إيباء الدوار عن ضيافتهم ثم غضب الجماعة وعزمها على الرحيل مبكرا من ساحة البخل . فلو أن أهل الدوار إستضافوهم ما كانوا ليغضبوا ولا ليقرروا الرحيل عن بكرة أبيهم الشيء الذي يجعل الظروف ملائمة للأستجابة لطلب الطفل بالتريث . أما وقد وقع من الدوار ما وقع فإن إستجابة أمير القافلة لطلب الطفل في حد ذاتها تعد كرامة بالنظر إلى الأنفة الفائقة التي كانوا يتحلون بها من ناحية ثم الإعتقاد الذي يسود لأول وهلة وهو أنه لو كان في أهل الدوار خير يرجى ما كانوا ليبخلوا بهذا الشكل . أما في الحقيقة فإن البخل ما وقع إلا ليرفع من قيمة الكرامة ولا يعتقد أن يكون من شيمة أهل الدوار أصلا.
إن هذه الحادثة التي شهدها إثنى عشرة رجلا ما فتئوا يكررونها حتى بلغت حد اليقين :
- كانت إعلانا صريحا ببداية رجل سيكون له شأن وأي شأن، - كما كانت من جهة أخرى إيذانا لأخيه ومربيه سيدي محمد بن الشيخ ليعطيه منذ اللحظة من الإهتمام ما يستحق ومن التربية الخاصة ما يلائم صقل مواهبه الكبيرة ويعده للمكانة الرفيعة التي تنتظره، - ومن ثم كانت تنبيها لأعمامه ولغيرهم من الناس ليأخذوا الحيطة والحذر من هذا البرعوم ويتنبأوا له بمقام السيادة الرفيع . كما كانت أيضا خير ضيافة ما كانت لتوازيها أي ضيافة أقيمت على شرف الوفد تقديرا لهم وتكريما لمكانتهم وجبرا لخاطرهم .
ومما يستفاد منها أيضا درس بليغ في غاية الأهمية وهو ضرورة التسليم لمخلوقات الله مادامت الظواهر ليست دائما ترجمانا صادقا على الجواهر . ويتجلى الدرس في كون الدوار الذي كاد اليأس أن يسود من رجاله فإذا بامرأة أيم من نفس الدوار لها من الصلة الخاصة بالشيخ عبد القادر الجيلاني ما لم يكن متوقعا كدليل على خصوصيتها وعلو مكانتها . كما أن المرأة نفسها بالنظر إلى مكانتها الخاصة ما كانت لتقيم بهذا الدوار لو كان أهله يفتقرون فعلا إلى كل خير . بل وما كان الشيخ الجيلاني ليزورهم علانية على هذا المنوال وهم كذالك .
خلاصة القول : ينبغي التحرز من جميع المخلوقات وتفويض سرائرها لله الذي يعلم السر وأخفى . أو كما يقال :" سلم للخاوي تنجى من العامر" . فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يعلم حقائق وأسرار المخلوقات
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) . ومن حكمته البالغة أن أخفى أولياءه في خلقه لكي يتم التسليم للجميع، مع الإشارة إلى أن أمة سيدنا محمد لا تخلو من خير في كل عصر