وهي آتية
كانت المجاعة أثناء الحرب العالمية قد عمت قطري المغرب والجزائر شأن معظم دول العالم لا بسبب الجفاف فحسب وإنما بالدرجة الأولى كإفراز لمخالفات الحرب، وعلى الرغم من الحالة الجيدة للمواشي آنذاك إلا أن ثمنها كان زهيدا جدا مقارنة مع أثمان المواد الغذائة المرتفعة بشكل لا يطاق بسبب ندرتها إلى درجة أن ثمن مجموع عشرات النعاج السمان كان لا يساوي ثمن القنطار الواحد من المير الرديء مما يبرز الخلل الواضح في ميزان العرض والطلب لمواد المعيشة آنذاك
وفي إحدى السنوات القاسية في وسط الأربعينات حيث إشتدت قساوة الظروف إلى أقصى حد، فكر سيدي الحاج الشيخ بفطنته العالية وذكائه النير، وتسليمه الكامل في إيجاد طريقة قد ترفع الحرج والضيق على المخلوقات على مستوى القبيلة . فقرر أن يلج من باب الكرم إذ عمد ذات يوم إلى ذبح شاة سمينة وأطعم عليها ثلة من شيوخ القبيلة كان من عادتهم أن يجتمعوا سويا بالجامع . وكان يوجد من ضمنهم سيدي أحمد بن الشيخ والفقيه الراتب . إلا أن الشيوخ لم يستفسروه عن سبب ذبح الشاة ولا عن مناسبة الوليمة . وفي اليوم الموالي أحضر شاة سمينة ثانية وذبحها وأطعمهم كما فعل في اليوم السا بق . إلا أنهم لم يستفسروه هذه المرة أيضا عن سبب هذا الإ طعام المتوالي . وبدوره لم يفصح لهم عن سبب تصرفه لا صراحة ولا ضمنا . كما أن سيدي أحمد بن الشيخ بدوره صاحب الغنم لم يستفسر إبنه عن سبب تصرفه بهذا الشكل .
وفي اليوم الثالث على التوالي أعاد الكرة فذبح الشاة الثالثة وقدمها لشيوخه على نفس النحو. وفي هذه المرة بعدما تناول الشيوخ الطعام بدأوا يتساءلون فيما بينهم ما بال صاحبنا يوالي ذبح غنمه، ماذا عساه يريد من وراء إطعامنا . فأجمعوا أن يكلموه في الأمر . فسأله الفقيه : " ما بالك بني توالي ذبح شياهك بهذا الشكل و تطعمنا، ماذا تريد منا بالذات ؟ " وتهيأت الفرصة سانحة أمام سيدي الحاج الشيخ ليفصح عما يريد . وكان مطلبه عزيزا جدا . فجاء جوابه بنبرة تحمل هموم الخلائق، جواب من يأمل في الخلاص الجماعي لا من يهفو إلى استحواذ الخير لنفسه فقط حيث قال : يا سيدي لي مطلبان : أريد أولا أن ترفع حالة الغضب هذه عن المخاوقات . وهنا توجه الفقيه إلى أحمد قائلا : " أجبه يا سيدي أحمد" فقال سيدي أحمد بن الشيخ :
" أما هذه فلك، ستكون إن شاء الله تعالى . وما هو مطلبك التاني " ، فأردف سيدي الحاج قائل ا: " أريد ثانيا أن أتحصل من جنابكم على إذن خاص أستطيع بمقتضاه أن أعلن في الناس ثلاثة أيام سقي متتالية ( كان السقي مرة كل يومين ) أن من أراد أن يمير أهله بالجزائر فهو مأذون شريطة أن لا يلاقي أي أحد منا أذى في الرحلة " . وما إن سمع سيدي أحمد بن الشيخ ما سمع من إبنه حتى أجابه بلهجة صارمة قائلا : " إذهب يا بني فإنك مأذون فيها طلبت شريطة أن تعاهدوني على الصدق ومداومة الذكر . وإعلم أن ما أنتم ذاهبون إليه سيأتي راحلا في إستقبالكم " . وما أن تم الحوار حتى عمت الفرحة سيدي الحاج الشيخ ولاحت أمامه بشائر المستقبل . ولما كان الصبح توجه إلى مكان السقي وبدأ ينادي في الناس : " أيها الناس من أراد أن يرحل إلى الجزائر ليمير أهله فهو مأذون . إن الركب سينطلق عما قريب " . وكرر النداء ثلاث مرات متتالية كما طلب ذلك . وتجدر الإشارة إلى أن كلا من الجزائر والمغرب معا كانا يرزخان تحت الإحتلال الفرنسي الذي كان يسعى جادا إلى ضبط الأشخاص والممتلكات لاستغلالها في الحرب لكونه كان طرفا فيها .
ولما وصل ميعاد الرحيل تحركت القافلة شطر الجزائر على مرأى ومسمع ودون تسريح إداري من طرف سلطات الإحتلال مادام التسريح كان ربانيا في شخص سيدي أحمد بن الشيخ . ودخلت القافلة الحدود الجزائري بدون أي مراقبة أو تفتيش . وأثناء طريقهم التقوا برجل من القبيلة كان بدوره قافلا نحو مدينة تيارت بالجزائر على متن 12 بعيرا فسألهم : " هل بلغكم أنتم كذلك إعلان توزيع المواد المعيشية بمدينة تيارت " فأجابوه مبتسمين أن نعم . مبتسمين لأنهم فعلا قد سمعوا الإعلان لكنه غير إعلان الحكومة الفرنسية القائمة وإنما الإعلان الصادر عن سيدي أحمد بن الشيخ . ( ومفاد ذلك أن الحكومة الفرنسية كانت قد أعلنت عن توزيع بعض المواد الغذائية على المناطق الجد متضررة من القطر الجزائري . وصادف أن تزامن هذا الإعلان بالذات مع الإعلان الذي قام به سيدي الحاج الشيخ بناء على إذن سيدي أحمد بن الشيخ في الموضوع ) ولما بلغت القافلة رأس الماء وهو المدينة المسماة " دبدو " بالجزائر صدر إعلان يفيد أن الحكومة قد قررت تسهيل المأمورية على المواطنين . فعوض مدينة تيارت قررت أن يتم التوزيع بتلاغ وهو موضوع بالقرب من مدينة " بيدو " ) .
وفي الصباح الموالي تجمهرت القوافل بالمكان المذكور . وأقيم سوق للأغنام إستطاع أصحابنا أن يبيعوا كل قطعانهم التي أخذوها معهم بأكثر من ضعف الثمن الذي كانت تباع به في بلادهم . وقي المقابل كانت أثمنة المواد الغذائية مناسبة للغاية مقارنة مع الأسعار السائدة آنذاك . وهكذا إستطاع الوفد أن يكتال من المير كل ما أراد خصوصا القمح الرفيع الذي كان يقل ثمنه بكثير عن ثمن رديء التمر الذي كان يوجد لوحده بأسواق المنطقة الشرقية بالمغرب . ونظرا لحصة الدراهم الغير منتظرة التي حصلوا عليها من بيع الأغنام فقد أتموا حمولة جميع الجمال وبقي فائضا غطى حمولة عدد من الجمال الأخرى المكتراة لتصدير البضائع إلى بلدهم . وكان من جملتها ستة للصاحب الذي رافقهم في الطريق لم يستطع شراء حمولتها . وهكذا عاد الوفد في غاية الغنم سالما من أي أذى أو غرم . غنم تم من غير ميعاد لأنه لم يكن من مألوف الحكومة الفرنسية القائمة أن تقوم بمثل هذه المبادرات . وكانت هذه إحدى الكرامات العظيمة لهذا الشيخ الجليل نستلهم منها عدة كرامات أذكر منها : تزامن النداء الذي قام به سيدي الحاج الشيخ والذي أمرت به الحكومة -الفرنسية .
- دخول قافلة كبيرة من ذلك الحجم للتراب الجزائري دون أن تتعرض لأي مناوشة أو تفتيش .
- تحصيل الربح الكبير من وراء الأغنام مع تحقيق الكيل العريض لأجود المواد الغذائية المفقودة .
- وخصوصا تحقيق سيدي أحمد بن الشيخ " إن ما أنتم ذاهبون إليه سيأتي راحلا في إستقبالكم " . وقد تم ذلك فعلا لأنهم كانو قاصدين مدينة تيارت بعدما سمعوا بخبر التوزيع بها . فإذا بالتوزيع يأتي راحلا من تيارت إلى تلاغ ليكفيهم مسيرة ثلاثة أيام كاملة . وعند التأمل نلاحظ وجود الصدق في الطلب والإلحاح فيه والاضطرار إليه، وهي الخصال التي يتطلب توفرها لتحصيل الإستجابة، ومن جهة أخرى تم التوسل بشيخ جليل من أولئك الذين لا يرد لهم دعاء .
وهكذا فإن ما قامت به الحكومة الفرنسية
في عالم الشهادة سواء فيما يتعلق بالتوزيع أو تغيير مكانه بين عشية وضحاها ليس إلا تنفيذا لما تم في عالم الغيب من حفاوة العناية الإلهية بمكانة الشيخ الجليل بالإستجابة لمطالبه . وإلا فكيف تم كل شيء كأنه بميعاد . وهل يعقل أن يقع كل شيء مصادفة . إن في ذلك لعبرة . ألا فلنعتبر .