بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
كرامة أخرى لسيدي أحمد بن الشيخ رحمه الله بعنوان :
السيد المزوزي
كانت السيدة يمينة بنت الشيخ أصغر و آخر زوجات الولي الصالح سيدي أحمد بن الشيخ . والدها سيدي الشيخ بن قدور إبن عم شقيق لسيدي أحمد بن الشيخ . وكان يموت أطفالها من سيدي أحمد حتى بلغ عددهم ستة بين بنين وبنات الشيء الذي جعلها تكون متعطشة جدا لصبي يعيش لها . وكان سيدي الحاج الشيخ الإبن الأصغر آنذاك لسيدي أحمد بن الشيخ ووارث سره شديد المحبة لها وكثير التقدير إلى درجة كان يجعلها في كفة المساواة مع والدته وزيادة . وكان يشاطرها هم موت الأبناء، يناديها بأمي رغم أن والدته كانت على قيد الحياة وفي عصمة والده .
وفي صيف 1947 حيث كان حديث عهد بعرس أمره والده سيدي أحمد أن يستعد للذهاب إلى الفلاحة كما كانت العادة . وعندما حان الموعد أرسل إليه آمرا أن يصاحب معه أمه
( أي السيدة يمينة السالفة الذكر ) لتؤنس له زوجته الحديثة . ولم يعهد على سيدي الشيخ أن راجع قرار أبيه مهما كان فيه من تكليف . إلا أنه في المرة هذه راجعه حيث رفض أن يصاحب معه السيدة يمينة لاعتبارات ذات دلالة منها :
- أن مدة المصيف تدوم قرابة ثلاثة أشهر ولم يرد أن يحرم السيدة الشابة من زوجها لكل هذه المدة .
- ومنها ما كان يتحلى به من جليل الأخلاق كالحياء و المروءة والتواضع .
- ومنها الحرج الشديد الذي يمكن أن يعاني منه إذا ما صاحبها لكونه مرفوقا بزوجته الحديث عرس بها .
- ومنها أن السكن مجرد كان عشة صغيرة لا تكفي .
إضافة إلى كونه لم يرد أن يحملها متاعب الفلاحة وهي عنده من المحبة والتقدير بمكان .
أما سيدي أحمد بن الشيخ فلم يكن قراره اعتباطيا و إنما كان عن روية وحصافة رأي وبعد نظر :
+ فمن ناحية كان لايرغب في ترك زوجة إبنه اليافعة تتحمل المشاق لوحدها إذن في ذلك من التكليف والقيل والقال ما فيه .
+ ومن ناحية ثانية لم يرد أن يرفقها بالزوجة المسنة التي قد لا تفيدها نظرا لحالتها الصحية، ثم نظرا لما قد يتلو ذلك تأويلات في الخفاء حول كونه إحتفظ لنفسه بالزوجة الشابة وإن كان ذلك من حقه . وهي النقطة التي لها حساسية خاصة من عدة زوايا . خصوصا وإنه كان القدوة المثلى للجميع يسعى أن يضع نفسه موضع الإتهام .
وتمسك كل من الرجلين كلا بموقفه بالنظر لما لكل موقف من الوجاهة . ولما علم سيدي أحمد بن الشيخ برفض الإبن أرسل إليه ثانية يأمره بمصاحبته إياها . لكن الإبن البار تمسك بموقفه من جديد وأبى بشكل قاطع ولو كلفه ذلك أن يترك الزوجة . وإذا كان لموقف الابن من دلالة فإنما يدل على عمق المحبة وفائق التقدير نحو زوجة أبيه . ولم يكن ليغيب على الأب ما كان يتمسك به إبنه البار من مبررات . بل إن وجاهة تلك المبررات نفسها هي التي زادت في رفع مكانة الابن عنده مما جعله لا يتغاضى له عن الرفض الذي لم يكن معهودا عليه فحسب، وإنما يستجيب له أيضا لمطلب جليل عزيز المنال ما كان ليطرق لولا جلاء بصيرة الإبن العظيم .
ولما علم سيدي أحمد بن الشيخ تمسك إبنه بالرفض أرسل إليه ثانية في نفس الموضوع، لكنه أبى من جديد إلا أن يرفض بشكل قاطع . وبعد المرة الثانية أرسل له ليخاطبه شخصيا في موضع كان من عادته أن يخاطب الناس فيه كلما تعلق الأمر بشأن ذي أهمية خاصة . فلما حياه إبنه كالمعتاد ووقف خلفه بادره الأب قائلا :
" يا بني لقد أرسلت لك لتصاحب معك أمك وإني قد رخصت لها شخصيا عن طيب خاطر لترافقك " .
وسنحت الفرصة للشاب الذي كان يشاطر لوعة أمه ويقدر مشاعرها فأراد أن يحسن اغتنامها .
فأطرق مليا وأجاب بجرأة وشجاعة :
"نعم سيدي لقد رفضت ولكن أن رأيت يا سيدي أن لا مناص أن أصاحبها فسأفعل لكن بشرط " . وأيقن الشيخ أن وراء الفتى مطلبا ذا شأن مادام أن إذعانه بعد الرفض المتوالي ما كان ليقع لولا أن يقابله عظيم الطلب . كما أنه بالنظر إلى المكانة الخاصة التي كانت تحضى بها السيدة عنده ما كان أن يتنازل عن موقفه لولا أن يعود عليها تناوله بمكسب عظيم .
ابتسم سيدي أحمد بن الشيخ وقال لابنه بترو وأناة :
" وما هو شرطك ياسيدي ؟؟ "
حينذاك ارتفعت رغبة الفتى فأجاب بنبرة خليط بالدهشة والفرح .
" نعم سيدي إني أريدك أن تخلف لأمي عمارة الدار"
عمارة الدار! يا له من مطلب عظيم نابع من قلب سليم ... إنه يرغب لأمه ولدا تقر به عينها خصوصا وأن أباه كان قد غاص في الشيخوخة يدنو طبيعيا من الرحيل ... لم تراوده الغيرة في كون الوليد الذي يرجو لها سيستحوذ على قلبها ويحول بينها وبينه، لم يستحوذه الغضب كأي إنسان عادي لكونه يحبها لدرجة والدته وزيادة في الوقت الذي كانت فيه دائمة التطلع إلى وليد من أحضانها . لم تراوده مثل هذه الشكوك التساؤلات لأن مستواه كان وليد عناية ربانية توفق وتربية عالية توجه أضف إلى ذلك مؤهلات شخصية من طراز فريد ترشحه لأن يكون من أعاظم الرجال .
أجاب الوالد الحنون إبنه قائلا : " نطلب الله لها عمارة الدار"
لكن الفتى لم يقتنع، إنه يريد جوابا صريحا مؤكدا، فأجاب أباه قائلا :
" لا يا سيدي لن أوافق على مصابحتها حتى تضمن لها عمارة الدار" . فأجابه ثانية بنفس الجواب :
" نطلب الله لها عمارة الدار"
لكن الفتى لم يقتنع من جديد . وأكد لأبيه بلهجة الحازم الجازم :
" إني يا سيدي لن أصاحبها معي أبدا ما لم تجزم لي أنك ستترك لها عمارة الدار" .
لهجة صارمة بنبرة صادقة من عبد ملحاح لم تترك مجالا للشيخ للمداهنة أو المداراة .
ولم يجد بدا من أن يجيب بما يثلج الصدر و تقر العين ويطمئن الفؤاد حيث قال :
" إن كان لابد يا بني فاعلم أنك سوف تخيم بأرض بها وادي جار على ضفته الشمالية جدول صغير بقربه هضبة عليها خلوات للتعبد منها واحدة متميزة بكذا وكذا ... فاذا وجدت ذلك فتوضأ و أمك من الجدول وصليا ركعتين بالخلوة المتميزة واذكرا الله تعالى بها ما استطعتما توجها لله بالدعاء . فانكما إن فعلتما فسأترك لأمك ولدا صالحا سيكون فيه خير وصلاح المسلمين إن شاء الله " .
وقد كان ذلك فعلا . فما أن أقام سيدي الحاج الشيخ بموضع حتى تيقن من وجود جميع الأوصاف التي دله عليها والده . فما لبث أن ذهب برفقة أمه السيدة يمينة، وقاما بتنفيذ الوصية بحذافيرها وفاء بالشرط .
وما هي إلا مدة قصيرة بعد رجوعهم من المصيف حتى أحبلت السيدة لتنجب في ربيع السنة الموالية طفلا قبل وفاة والده سيدي أحمد بن الشيخ ببضعة أشهر سمي محمدا
وكان هو آخر أبناء سيدي أحمد بن الشخ لذلك لقب بالمزوزي حتى اشتهر به اسمه الحقيقي . وسيدي المزوزي هذا غني عن كل تعريف . إنه كما بشر به والده يتحمل أعباء جساما من شؤون القبيلة بل والمنطقة على عدة أصعدة بصدق وإخلاص وتفان خصوصا ما تعلق منها بالجوانب الاجتماعية والإدارية . كما أنه يحمل البعض من سمات والده رحمه الله ونفعنا به .
لقد رأينا في هذه الحادثة مجموعة من الكرامات المتداخلة، فإذا ما نحينا جانبا ما أبانت من علو مكانة سيدي الحاج الشيخ كثمرة للتربية الخاصة التي كان يوليها إياه أبوه، يمكننا ملاحظة ثلاث كرامات أخرى على الأقل :
الأولى : وصفه للبقعة الأرضية قبل أن يحل بها إبنه ودون أن يكون له بها سابق علم .
الثانية : قوله أنه سيترك لزوجته السيدة يمينة ولدا ذكرا قبل وفاته، وكان الأمر كذلك .
الثالثة : قوله أنه سيكون في هذا الإبن خير وصلاح المسلمين، وقد كان كذلك فعلا .
وسيدي محمد المزوزي هذا يتحمل اليوم العديد من المسؤوليات ويقوم بها خير قيام
سواء على صعيد القبيلة أو على صعيد المدنية التي يقطن بها . كما أنه يتحلى بالعديد من المواصفات الرفيعة وعلى رأسها الصبر و الكرم والوفاء و الفطنة والذكاء و حسن الخلق وأكرم بها من فضائل وأنعم، وأشير في النهاية إلى التساؤل الذي يمكن أن يطرح من وراء كون سيدي أحمد بن الشيخ أمر إبنه بتلمس البقعة والوضوء والصلاة والدعاء كشرط لقبول الطلب . ما الفائدة من وراء إقامة الشرط في الموضوع . مما يمكن الإجابة به :
1- ضرورة إتخاذ الأسباب . وهذه قضية ثابتة في القرآن الكريم في العديد من الحالات نذكر منها :
- قوله تعالى لمريم : ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ) حيث كان الهز سببا لسقوط الثمار .
- ثم قوله تعالى على لسانها : ( فأشارت إليه ) إشارتها كانت سببا لنطقه .
- قوله تعالى في العديد من الآيات بشأن عصا موسى وكيف كانت سببا لإفحام السحرة وإيمانهم ثم كانت سببا في فلق الفجر وغير ذلك من مآرب موسى .
- ثم نزول الدابة التي تم عليها إسراء ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم .
ففي كل هذه الحالات و مثيلاتها إنما أراد الله أن ينبهنا إلى ضرورة اتخاذ الأسباب وإل افهل تكون قدرة الله المطلقة في حاجة إلى اتخاذ الأسباب . وهذه الضرورة هي التي حدت بسيدي
أحمد بن الشيخ أن يحت إبنه على تلمس الأسباب في هذه النازلة .
2 - وهناك قضية أخرى وهي التنبه إلى ضرورة تلمس آثار الصالحين وابتغاء الخير
منهم . هذه قضية مرغب فيها جدا شرعا وهي من قبيل النفحات أمرنا بالتعرض لها .
فسيدي أحمد بن الشيخ وإن كان قد أمر إبنه بأبنه بأمور شرعية بحثة أي الوضوء والصلاة والدعاء، فانما أمره أن يقوم بها في مكان طاهر له خصوصية سبق أن أقيمت فيه خلوات ذكر وفكر وعزوف عن الدنيا وجمع الهمة مع الله . ولاشك أن هذه الأمور تترك آثارها فيه لتجعله يفتخر على غيره من الأماكن التي لم تشرف بهذه الأعمال حيث تقوت فاعليه العبادة بخصوصية المكان .
3 - والوجه الثالث : أن هناك أمور غيبية كثيرة تؤدي دورها في الحياة ونحن عنها غافلون مثل تأثير العين السحر والجاذبية وأضرابها كثير .
ومن هذه الأمور التأثير الذي تحدثه زيارة الصالحين واقتفاء آثارهم في مثل حالتنا هذه . وقد نبهنا القرآن الكريم إلى هذه القضية في قوله تعالى : ( قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها و كذلك سولت لي نفسي ) حيث أن السامري قام بفعل الأعاجيب بسبب قبضة التراب التي اقتفاها من أثر جبريل واستغلها فيما سولت له نفسه . إذن فاستغلال مثل هذه الأمور فيما يرضي الله ويعود بالنفع هو باب أولى . وقد أشرت في غير هذا الموضع إلى أن الله يمحو بعض الأقدار بتثبيت أخرى بسبب القيام بأعمال معينة . غير أن هذه النقطة يجب أن نتخذ منها الحيطة والحذر حتى لا ننزلق إلى الخرافات والترهات والخزعبلات إذ يجب أن نتحرى فيها الصواب باخضاعها لمعايير الشرع .
المصدر :
عن سيدي الحاج الشيخ .
و كتاب لله رجال ، تأليف الدكتور أحمد بن عثمان