متاجرة الشمال
كان سيدي محمد بن العربي أحد خيرة رجال القبيلة علما وورعا . وكان قوي المحبة لسيدي أحمد بن الشيخ دائم الملازمة له . وكان كثير العيال متعسر الحال . إشتدت به القافة في إحدى سنوات الجفاف فراح يلتمس الإذن من سيدي أحمد بن الشيخ للحصول على مصدر الرزق يسد به فاقته . أما سيدي أحمد فسكت عنه المرة الأولى ثم راجعه في الموضوع مرة ثانية بعد أيام . فسكت عنه من جديد ثم راجعه الثالثة بإلحاح قائلا : " أنت تعلم يا سيدي كثرة عيالي ورداءة حالي وتعففي عن الناس، وأني لا أستطيع أن أمد يدي للإقتراض ولو بلغت مشارف الموت جوعا . وإني لن أبارحك الساعة حتى تأذن لي في أي عمل " ولما رآه سيدي أحمد ملحا في الطلب قال له : " وهل تستطيع أن تعاهدني على أمرين " فأجابه : " نعم إن شاء الله وما هما يا سيدي ؟ " قال : " عاهدني ألا تكذب مهما كانت الظروف وأن تجهر بذكر الله في مواطن الخوف " .
ولما تعاهد الرجلان أردف سيدي أحمد بن الشيخ قائلا لصاحبه : " إذهب إلى وجدة عند صديقك فلان فإنه في إنتظارك بحرارة . فأي عمل أقترح عليك فوافقه " وكان هذا صديقا له إنقطعت الصلة بينهما لمدة . وما إن سمع ذلك من سيدي أحمد بن الشيخ حتى شد الرحال إلى وجدة فرحا مسرورا ليقينه أنه سيجني من وراء رحلته ربحا كثيرا . ولما وصل إلى صديقه لاقى منه ترحيبا وأطلعه على طول إنتظاره ثم بارحه قائلا : " ماذا بك قدغبت كل هذه المدة في وقت غنمت فيه الناس أرباحا كبيرة عن طريق المتاجرة في الأسلحة من الشمال خصوصا وإن رجولتك تؤهلك لمثل هذا العمل . خذ ما يكفيك من المال وإشتر ما شئت من أسلحة وأحضر معك كل مرة قطعتين تحت جلباب أعددته لك بالمناسبة " . وإتفق الرجلان . وتحمس سيدي محمد بن العربي للمهمة بناء على الإذن الخاص .
وبدأ يوالي الرحلات يأتي في كل رحلة ببندقيتين خفية كما تم التخطيط . وقد حصل من جراء ذلك على ربه كبير . ولما قل الطلب على البنادق بدأ يتاجر في الخراتيش يأتي كل مرة بما تيسر في حقيبة الأمتعة . وحدث ذات مرة على إثر وشاية أن قام الدرك والجمارك بتطويق القطار قرب مدينة وجدة وبدأوا بتفتيش صارم ودقيق في أمتعة جميع المسافرين بدون إستثناء أو تسرب . وكان سيدي محمد بن العربي يحمل معه حوالي 400 خرتاشة في الحقيبة . وعندما إقترب دور تفتيشه بدأ يذكر الله تعالى بأعلى صوته والناس تحملق فيه بإستغراب، ثم تظاهر بالغشيان . فأمسك به أحد الدركيين معتقدا أن به نوبة، وقال لأحد زملائه أعطوه أولوية التفتيش لنتركه يمر لعله مريض . فلما مثل للتفتيش وبيده الحقيبة المليئة بالخراتيش سألوه ماذا معه في الحقيبة ؟ فأجاب بصدق وفاء بالعهد : " إن بها خراتيش " . فقال المفتش متهكما : " دعوا هذا الأحمق يمر لعله يسخر بنا، لو كان بحقيبته ما يقول فعلا ما كان ليتفوه بها " .
وهكذا فتح المجال لسيدي محمد بن العربي ليمر دون تفتيش وفي حقيبته من الخراتيش 400 في وقت كانوا يبحثون عن أتفه الأسباب لإلقاء القبض على الناس ناهيك عمن عثر عنده على الخرتاشة الواحدة بالنظر للغليان الذي كان يسود العالم آنذاك بسبب الحرب العالمية الثانية . وبمجرد أن بارح الباب رأى صاحب سيارة لا يعرفه يشير إليه قائلا : " أسرع يا سيدي فإني في إنتظارك " . وفتح له الباب وأقفل مسرعا نحو المدينة دون أن يتبادلا أي حديث بل ودن أن يسأله عن هويته ومن أرسله إليه وإلى أين يريد به . ولما توسط به المدينة بادره قائلا : " إلى أين تريد ياسيدي " . فأجابه " لا عليك إتركني ههنا " . قال بل سأذهب بك إلى أي مكان تريد . ألست تريد السيد فلان ( وذكر له إسم صاحبه ) إن كنت كذلك سأذهب بك إليه . فأجاب بنعم .
وواصل به فعلا حتى منزل صاحبه . فلما أراد أن يعطيه أجرته أجابه السائق قائلا :
" لا يا سيدي لن أقبض منك سنتيما واحدا . لقد تقاضيت عنك قبل أن آتيك " وتركه وإنصرف دون مزيد من الكلام . ولما دخل سأل صاحبه إن كان قد أرسل له السيارة، فأجابه أنه لم يكن قط على علم بما جرى .
وهكذا كانت هذه أيضا كرامة كبيرة أخرى من عظيم كرامات هذا الرجل، كرامة مركبة من عدة كرامات نذكر منها :
- قوله لسيدي محمد بن العربي إن صاحبك في إنتظارك مع العلم أنه لم تصل أخباره منذ مدة .
- خلاص سيدي محمد بن العربي من التفتيش بتلك الأعجوبة ونجاته من أذى المستعمر .
- إنتظار السائق إياه وخدمته بتلك الصورة الغريبة دون سابق معرفة ولا إذن معلوم .
- تصريح السائق بالتقاضي عنه قبل مجيئه إليه دون ذكر من تقاضى عنه .
إنها كرامات ساطعة لا يماري فيها متكبر معاند حسود . كما يجدر التنبيه من جهة أخرى إلى أن سيدي أحمد بن الشيخ أوصى صاحبه على الصدق والذكر لميزتهما الخاصة . أوصاه بالصدق ولو في أصعب الظروف التي تقتضي أكثر ما يمكن من التقية والمداراة . كما أوصاه بالذكر جهرا في المواطن التي تقتضي التخفي والإسرار وهما إقتضاءان لازمان في عالم الشهادة والأسباب . لكن المتأمل في هذه الوصية يشعر بمدلولها العميق في الترفع عن عالم الأسباب والتعلق المباشر بالله سبحانه وتعالى الذي له وحده تعطيل نواميس تلك الأسباب . كما يشعر أيضا بما في عمقها من تسليم كامل وإيمان صادق بالقضاء والقدر . إنها ومضات قد يستطيع العقل إدراك نصيب ضئيل منها إذا ما كان يتسم بالسلامة والقوة، لكن القسط الوافر يظل إدراكه من نصيب عالم الشعور والوجدان الأمر الذي يتطلب قوة الحدس ورهافة الحس وصفاء السريرة وجلاء البصيرة .
فإذا ما خالج عقلك أيها القارىء الكريم من هذه الكرامة مايخالج، فإني أحيله إلى أحدات سورة الكهف التي وقعت لرسول الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم من الخضر العبد الذي شهد له الحق سبحانه بالصلاح . أحداث إذا ما قيمت بالعقل المجرد فإنها تبدو من قبيل المستحيل . ولكنها ما إن ظهر تأويلها في عالم الشهادة على لسان العبد الصالح حتى تأكد أنها حقائق بالرغم من مخالفتها لظاهر الشرع . وإن كان لنا أن نستفيد منها فإنما نستفيد أن الحقائق التي نتعامل معها في حدود الشرع هي حقائق نسبية لكونها مقيدة بمحدودية العقل وأبعاد الزمان والمكان . أما الحقيقة المطلقة فتبقى في مكنون الغيب لا يعلمها إلا عالم الغيب والشهادة . ومما يستفاد أيضا أن جدال الإنسان حول الكرامات إنما يكون بسبب جهله لهذا الأمر وما يتمخض عنه اعتقاد في كون الحقيقة كلها تنحصر في حدود ما يدرك بالحواس فقط . وهكذا فبناء على إعتقاد الإنسان عن الجهل المطبق وقلب الحقائق في كون المقيد يستطيع ادراك المطلق نراه يعارض كل ما يخرج عن مجال العادة والمألوف ونطاق إدراك العقل المحدود .